الطماطم في مصر.. من الحقل إلى السوق إلى “حلقة ضائعة”

تقرير: محمد ابوحلاوه
الطماطم.. سلعة بسيطة تتحول إلى صداع أسبوعي
لا توجد سلعة غذائية أثارت الجدل في مصر كما تفعل الطماطم.
فهي عنصر أساسي في كل بيت، ورغم ذلك يُمكن أن يتحول سعرها من 4 جنيهات إلى 15 جنيهًا خلال أيام قليلة، دون أن يفهم المواطن السبب الحقيقي وراء هذا الارتفاع المفاجئ.
في الأيام الأخيرة، سجّل سعر الطماطم في سوق الجملة (العبور) ما بين 3 و8 جنيهات للكيلو، بينما بيعت في أسواق التجزئة ما بين 9 و15 جنيهًا — وفق تقارير صحفية صادرة يومي 10 و11 ديسمبر 2025.
هذه الفجوة — التي تصل إلى 300% — ليست مجرد ظاهرة اقتصادية، بل هي علامة على خلل عميق في منظومة التسويق الزراعي في مصر.
هذا التحقيق يحاول فكّ لغز:
لماذا تتحكم “حلقة غير مرئية” في سعر الطماطم؟
ولماذا تظل السلعة الأكثر إنتاجًا هي الأعلى تقلبًا؟
رحلة مع محصول يتحكم في مزاج السوق
تُزرع الطماطم في مصر على مدار العام، في 3–4 عروات رئيسية.
ومع ذلك، يظل السوق يعاني من اضطراب شديد خلال شهور معينة، بينما تتدفق الكميات بشكل هائل في شهور أخرى.
إنتاج مصر من الطماطم
-
تُعد مصر من أكبر 5 دول إنتاجًا للطماطم عالميًا.
-
تتجاوز المساحة المزروعة: حوالي 400 ألف فدان سنويًا.
-
يتراوح الإنتاج بين 6–7 ملايين طن سنويًا.
ورغم هذا الإنتاج الهائل، يظل السعر النهائي مرتبطًا بسلسلة معقدة من الوسطاء، تبدأ بالمزارع وتنتهي بالمستهلك.
المزارع.. الطرف الذي ينتج ولا يتحكم
داخل إحدى القرى بمحافظة البحيرة، وقف المزارع محمد أبو رواش أمام محصوله قائلًا:
“بنزرع، وبنحط سماد، وبنروي، وبنشتري مبيدات، وفي الآخر بنبيع بالسعر اللي السوق يقوله.
مش إحنا اللي بنسعر.. إحنا آخر ناس بتكسب”.
تكاليف زراعة فدان طماطم (تقريبي):
-
الشتلات: 9,000 جنيه
-
الري والطاقة: 5,000 جنيه
-
الأسمدة: 8,000 جنيه
-
المبيدات والمكافحة: 4,000 جنيه
-
العمالة والنقل: 6,000 جنيه
إجمالي تقريبي: 32,000 – 36,000 جنيه للفدان
متوسط العائد:
-
إنتاجية الفدان: 10–15 طنًا
-
سعر البيع للمزارع: 3–6 جنيهات للكيلو
النتيجة:
في كثير من المواسم، لا يحقق المزارع هامش ربح حقيقي، بل يعمل عند السوق.
السمسار – الحلقة الأخطر في سلسلة التسعير
أشارت دراسة أعدّتها إحدى الجمعيات الزراعية إلى أن أكبر فجوة سعرية تحدث بين المزارع والسمسار، وليس بين الجملة والتجزئة.
دور السمسار:
-
شراء المحصول من الأرض مباشرة.
-
التحكم في توقيت البيع.
-
بيع كميات ضخمة للتجار.
-
أحيانًا يخزّن المحصول لخلق شُحّ مفتعل لرفع السعر.
يقول أحد المزارعين:
“لو غاب السمسار يومين، السوق ينهار.
ولو احتكر يومين.. السعر يولع”.
سوق العبور – أكبر نقطة توزيع في مصر
سوق العبور للخضر والفاكهة يُعتبر “قلب التسعير” في مصر.
شهادة أحد كبار تجار الجملة:
“إحنا بنبيع بالسعر الحقيقي.
الطماطم في العبور مش بتعدي 8 جنيه.
بس في الطريق للمستهلك السعر بيتغير 3 مرات”.
لماذا تختلف الأسعار في المحافظات؟
-
فارق النقل.
-
فارق حلقات التجار.
-
اختلاف القدرة الشرائية بين المناطق.
-
وجود أسواق عشوائية غير خاضعة للرقابة.
لماذا يدفع المواطن ضعف السعر؟
1) تعدد الوسطاء (3–5 حلقات)
كل وسيط يضيف 1–2 جنيه على الكيلو.
2) الفاقد الكبير (15–20%)
الطماطم محصول سريع التلف، وغياب سلاسل تبريد يجعل جزءًا كبيرًا من المحصول يتلف خلال النقل والفرز.
3) غياب بورصة أسعار واضحة
كل تاجر يسعر حسب تقديره وليس حسب آلية رسمية.
4) ضعف الرقابة
الأسواق العشوائية تُحدد سعرها دون أي التزام بالقوانين التجارية.
5) موسمية الإنتاج
الأسعار تقفز بين نهاية عروة وبداية عروة جديدة.
تحقيق ميداني – من الأرض إلى المواطن
في هذا الجزء، يتتبع فريق التحقيق كيلو طماطم منذ خروجه من الأرض حتى وصوله للمستهلك:
1) المزارع → السمسار
سعر البيع: 3–5 جنيهات
2) السمسار → الجملة (العُبور)
سعر البيع: 6–8 جنيهات
3) الجملة → التجزئة
سعر البيع لتاجر التجزئة: 8–10 جنيهات
4) التجزئة → المواطن
سعر البيع النهائي: 9–15 جنيهًا
النتيجة: المواطن يدفع أكثر من ضعف السعر الأصلي.
ماذا يحدث لو أُنشئت بورصة إلكترونية للطماطم؟
وفق تقديرات عدد من خبراء الاقتصاد الزراعي، فإن إنشاء بورصة إلكترونية يمكن أن:
-
يقلل الفجوة السعرية بنسبة 30–40%.
-
يخفض التدخل البشري في التسعير.
-
يقلل قوة السماسرة.
-
يضمن للمزارع الحد الأدنى من الربح.
-
يقلل الفوضى في الأسواق الشعبية.
مقارنة دولية – كيف تنجح دول العالم؟
تركيا:
تتعامل مع الطماطم كبورصة يومية تُحدد فيها الأسعار كل صباح.
المغرب:
أنشأت أسواقًا مركزية متطورة بها تبريد وفرز وتعبئة، مما قلل الفاقد.
الهند:
تستخدم تطبيقًا إلكترونيًا حكوميًا يعطي السعر الفوري للمزارع والمستهلك.
هولندا:
تُسعر كل حبة طماطم من خلال منصات “ترميز إلكتروني” مرتبطة مباشرة بسلاسل السوبرماركت.
سيناريوهات مستقبلية لسوق الطماطم في مصر
1) السيناريو الإيجابي (مع إصلاحات):
-
السعر يستقر بين 7 و10 جنيهات للمستهلك.
-
زيادة أرباح المزارع.
-
تراجع قوة السماسرة.
-
خفض الفاقد بنسبة 50%.
2) السيناريو السلبي (بدون تدخل):
-
استمرار الفوضى السعرية.
-
زيادات مفاجئة في مواسم معينة.
-
زيادة الفجوة بين الجملة والتجزئة.
توصـيات الـفــلاح
1) تأسيس بورصة إلكترونية للمنتجات الزراعية.
2) دعم سلاسل التبريد والنقل المبرد.
3) إنشاء مركز معلومات زراعي يعلن الأسعار يوميًا.
4) تفعيل الجمعيات الإنتاجية والتسويقية للمزارعين.
5) حلول تشريعية للحد من المضاربات.
6) تحسين البنية السوقية للأسواق المركزية.
خاتمة: الطماطم ليست المشكلة.. بل النظام
سعر الطماطم ليس قصة سلعة، بل قصة منظومة بالكامل.
وطالما ظل المزارع بلا حماية، والمستهلك بلا معلومة، والسوق بلا تنظيم، ستظل الطماطم هي “مزاج مصر” المتقلب.
ويبقى الأمل في قرارات جريئة تعيد ربط الحقل بالمائدة، وتمنح المصريين سلعة أساسية بسعر عادل، وجودة أفضل، ومنظومة تسويق تحفظ حقوق الجميع.




